فصل: تفسير الآيات (64- 66):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (64- 66):

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)}.
التفسير:
المسلم.. وكم حسابه في ميدان القتال؟
السلاح ليس هو كل شيء في القتال، وتحقيق النصر.. وأعداد المقاتلين وكثرتهم، ليست هي الميزان الذي يرجح به جيش على جيش.. وإنما الذي يجعل للسلاح أثره وفاعليته، ويقيم للكثرة وزنا وقدرا، هو درجة الإيمان التي يكون عليها الطرفان المتقاتلان.
فالإيمان حين يعمر قلب المؤمن، ويملك عليه مشاعره- يجعل العصا التي في يد المؤمن أكثر مضاء، وأقوى أثرا من السيف في يد غير المؤمن، أو من هو أضعف إيمانا منه.
ومن هنا كان من منن اللّه سبحانه وتعالى على نبيّه أن جعل أولياءه الذين يدفعون العدوّ عن دعوته، جندا مسلحين بالإيمان والتقوى، بعد أن تسلحوا بالسلاح، وأعدوا للعدو ما يرهبونه به، من القوة ومن رباط الخيل.
وفى قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
إشارة إلى هؤلاء الجند الذين أقامهم اللّه سبحانه جنودا لنصرة النبيّ، ودفع يد الباغين عليه، المتسلطين على دعوته.
وإنه ليكفى النبيّ كفاية مطلقة أن يكون اللّه سبحانه وتعالى حسبه وكافيه، فهو في ضمان وثيق من الحماية التي لا تغفل أبدا، ولا تقف لقوتها قوة أيّا كان بأسها، وكانت سطوتها.
وإذن فما تأويل قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}؟ وما داعية عطف المؤمنين على لفظ الجلالة؟ وهل قوة اللّه سبحانه وتعالى تحتاج إلى قوة تسند وتعين؟ تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
والجواب- واللّه أعلم- أن في هذا العطف تشريفا وتكريما للمؤمنين، إذ أن في هذا العطف وصلا لهم باللّه سبحانه وتعالى، وجعلهم نفحة من نفحات رحمته، وجندا من جنوده التي يدافع بها عن الحق، ويدفع بها في وجه الباطل:
{أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وقد ذهب كثير من المفسرين إلى إضافة المؤمنين إلى النبيّ، بمعنى: يا أيها النبيّ حسبك اللّه، وحسب المؤمنين، أي يكفى أن يكون اللّه ناصرا لك وللمؤمنين.. وهذا معنى لا نرضاه، إذ يدفع عن المؤمنين هذا التكريم الذي اختصهم اللّه به، بل ويذهب بما جاء في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}! وقوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} هو تشريف للمؤمنين، ودفع لقدرهم، وأنهم- بما في قلوبهم من إيمان- في منزلة لا ينالها الكافرون والمشركون، وأن الواحد منهم يرجح عشرة من هؤلاء الذين لا يؤمنون باللّه.
والأمر بتحريض النبيّ للمؤمنين على القتال، إنما جاء بعد أن أمروا بأن يعدّوا لقتال العدوّ ما استطاعوا من عدد الحرب ووسائل القتال، من سلاح، وعتاد، وخيل.. وذلك بعد أن أعدّوا الرّجال الذين راضوا أنفسهم على الجهاد في سبيل اللّه، ووطنوها على الاستشهاد ابتغاء مرضاة اللّه.
فإذا جاء النبيّ بعد هذا يحرّض المؤمنين على القتال، ويستحثهم له، ويغريهم به، وجد قلوبا صاغية إليه، ونفوسا مستجيبة لما يندبهم له، إذ كان إنما يدعو مؤمنين استجابوا للحرب، ويستحث جنودا أعدوا أنفسهم للحرب، ورصدوها للدفاع عن دين اللّه، وملئوا أيديهم بالسلاح، كما ملئوا قلوبهم بالإيمان.
وفى قوله تعالى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} أمور.. منها:
أولا: هل هذا الشرط خبر في لفظه ومعناه.. بمعنى أن المراد به الكشف عن قدر المؤمنين، وما بينهم وبين الكافرين من بعد بعيد في القوة.
أم أنه خبر أريد به الأمر والإلزام، بمعنى أنه مطلوب من المؤمنين ديانة وشرعا، أن يثبت في ميدان القتال لعشرة من الكافرين.. فإن فرّ، أو نكل كان آثما..؟
أجمع المفسّرون على أن هذا الشرط خبر مراد به الأمر، وأن واجبا على المسلم أن يثبت للعشرة من العدوّ في ميدان القتال، وأن يغلبهم، فإن فرّ أو نكث كان آثما، بل ذهب بعضهم إلى أكثر من هذا، فقال: إن المسلم إذا لم يقتل العشرة، بل قتل هو، كان آثما، لأنه لم يحقق ما أمره اللّه به، وهو أن يغلب العشرة، لا أن يثبت لقتالهم وحسب!
وهذا الرأى الذي أجمع عليه المفسّرون قائم على أن هذه الآية منسوخة بالآية التي بعدها، وهى قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً}.
وسنعرض لقضية القول بالنسخ، بعد هذا.
والذي نراه- واللّه أعلم- أن هذا الشرط هو خبر في مبناه، ومعناه، ومفاده.. وأن هذا الخبر قد جاء تعقيبا على أمر اللّه سبحانه وتعالى النبيّ، بتحريض المؤمنين على القتال، وإغرائهم به، ليهوّن على المسلمين أمر القتال، وليخفف عنهم بعض ما يقع في نفوسهم من تكره له، حين يرون قلّتهم وكثرة العدوّ المتربص بهم.. فإذا علموا أنّهم بإيمانهم باللّه، وبتأييد اللّه لهم، أن الواحد منهم يغلب عشرة من الكافرين، طمعوا في أعدائهم، واستقبلوا الدعوة إلى لقائهم، على رجاء وأمل في الظفر بهم.
وثانيا: لم كان وزن المؤمنين في هذه الآية بحيث يغلب الواحد منهم عشرة من الكافرين.. ثم كان وزنهم في الآية التي بعدها، بحيث يغلب الواحد منهم اثنين من عدوّهم؟
يقول أكثر المفسّرين: إن ذلك كان والمسلمون قليلون، وذلك في أول الإسلام، فكان فرضا عليهم أن يحملوا هذا العبء الثقيل، وأن يقف الواحد منهم لعشرة من العدو، ويتغلب عليهم.. فلما كثر المسلمون بعد هذا، خفف اللّه عن المسلمين الأولين ما فرضه عليهم أول الإسلام، فبدلا من أن يلقى الواحد منهم عشرة ويغلبهم، أصبح المطلوب منه أن يصمد لاثنين فقط ويتغلب عليهم.!!
وهذا يعنى أن الآية الثانية جاءت ناسخة للحكم الذي تضمنته الآية الأولى.
والذي نقول به- واللّه أعلم- أن الآيتين محكمتين، لا نسخ فيهما، ولا تناسخ بينهما.. وذلك أن الحكم الذي تضمنه الشرط في الآيتين وارد في صيغة الخبر، والمعروف عند الذين يقولون بالنسخ، أنه لا تناسخ بين الأخبار ولا يرد هذا قولهم: إن الخبر يراد به الأمر هنا، فهذا القول منهم لا حجة لهم عليه، إلا القول بأن الآيتين متناسختين، وذلك يقضى بأن يكون الحكم فيهما واردا في غير خبر.. فلزم لذلك أن يخرج الخبر عن معناه إلى معنى الطلب.
فالحجة على النسخ، هي القول بالنسخ.. وإذن فلا حجة! ومن جهة أخرى.. فإن القول بالنسخ يقضى بأن يكون بين الآيتين- الناسخة والمنسوخة- مسافة زمنية، بحيث يكون لتغيّر الحكم ونسخه بحكم آخر مقتض اقتضاه تغيّر الحال بامتداد الزمن.. وليس هناك دليل يدل على أن فارقا زمنيا وقع بين نزول الآيتين.. بل ظاهر الآيتين ينبئ عن أنهما نزلتا معا في وقت واحد.. وقد قيل إنهما نزلتا في غزوة بدر، وقيل قبل بدء القتال.. وهذا قول يقول به القائلون بالتناسخ بين الآيتين ويقررونه! فالآية الأولى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} هذه الآية هي إخبار عن حال المؤمنين في الوقت الذي خوطبوا فيه بها، وأنهم يحملون من طاقات القوى الروحية والنفسية بما في قلوبهم من إيمان وتقوى، بحيث يغلب الواحد منهم عشرة من الكافرين.. إذا حقّق معنى الصبر الذي هو قيد للشرط.
هذا ما سمعه المسلمون يؤمئذ من خطاب اللّه سبحانه وتعالى لهم، فانكشف لهم منه ما أودع اللّه فيهم- بسبب إيمانهم- من تلك القوى العظيمة التي يجدونها معهم، وفى هذا ما يريهم فضل اللّه عليهم، وتكريمه لهم، وأنهم موضع لرحمة اللّه، ومغرس كريم لآلائه ونعمائه.
وتلك نعمة جليلة من نعم اللّه، وبشرى مسعدة مما يبشر اللّه به عباده المؤمنين.. ومن تمام هذه النعمة، وكمال هذه البشرى أن تتبع النعمة بنعمة، وأن ترفد البشرى ببشرى، وهذا ما جاءت به الآية الكريمة بعد هذا:
{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} وهذا الخبر الذي تلّقّاه المسلمون من هذه الآية هو خبر على حقيقته، لم يقصد به الأمر، بأن يكلّف المسلم التغلب على اثنين من الكافرين بدلا من عشرة.. بل إن هذا الخبر يثير في نفس المسلم شعورين:
أولهما: الإحساس بأنه وإن كان في كيانه من القوّة ما يقوم لعشرة من الكافرين، فقد عرضت له عوارض من خارج نفسه، قد أخذت من تلك القوة لحسابها، حتى تتوازن، وتحتفظ بأدنى مستوى من القوة يكون عليها المؤمن في قتاله للكافرين.
ذلك أن هذا الضعف الذي ورد على المسلمين لم يكن مؤثّرا على تلك الجماعة التي التقى بها الإسلام على أول الطريق، والتي آمنت به إيمانا اشتمل على وجودها كلّه.. فهذه، الجماعة لم تزدها صحبتها للإسلام إلّا قوة إلى قوة، ويقينا إلى يقين.. وإنما جاء الضعف إليها مع أولئك الذين دخلوا في دين اللّه أفواجا، فآمنوا كما آمن الناس، متابعة لرؤسائهم وأصحاب الكلمة فيهم، دون أن يتعرّفوا إلى الإسلام، وأن يخلطوا أنفسهم به، ويضيفوا وجودهم إليه.
وهؤلاء كانوا معظم الأعراب الذين يقول اللّه سبحانه فيهم: {قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [14: الحجرات].
ولهذا فقد ارتدّ كثير منهم عن الإسلام، بعد وفاة الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، إذ لم يك الإيمان قد دخل قلوبهم وسكن إليها.
فهؤلاء مسلمون قد دخلوا في صفوف المسلمين، وحاربوا مع المؤمنين، فلم يكن فيهم من القوى الروحية ما يرفعهم كثيرا عن المشركين، ويجعل قوة الواحد منهم تعدل قوة رجلين من العدوّ، فضلا عن عشرة.. ولهذا أضيف حسابهم إلى حساب الصفوة المختارة من المسلمين، من صحابة رسول اللّه من المهاجرين والأنصار، الذين كانت ولا تزال قوة الواحد منهم تعدل عشرة من الكافرين.. وبهذا صار حساب المسلمين في مجموعهم قائما على هذا التقدير:
الواحد منهم باثنين من عدوّهم.. على حين أن أصحاب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ما زال الواحد منهم يرجح في نفسه عشرة من الكافرين.
بل وأكثر من هذا.. فإن صحابة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم لم يكونوا على درجة واحدة في هذه القوة.. بل كان فيهم من يرجح العشرين، والثلاثين بل والمائة من العدوّ، على حين كان فيهم من يرجح الاثنين أو الثلاثة أو الأربعة، أو العشرة.. فإذا أضيف حساب بعضهم إلى بعض كانوا في مجموعهم على هذا التقدير الذي أخبر القرآن الكريم به، وهو أن الواحد منهم يرجح عشرة من عدوهم.
وهذا هو السرّ في أن المؤمنين قد لبسوا صفه واحدة، وحسبوا كيانا واحدا في قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}، ولم يجيء الخبر القرآنى عنهم بلفظ المفرد.. هكذا: الواحد منكم يغلب عشرة..!
وهذا هو السرّ أيضا في أن حساب المؤمنين كان في أول الأمر محصورا في أعداد قليلة.. عشرين ومائة، على حين كان بعد ذلك مدلولا عليه بالمئة والألف.. إذ كانوا في الأول أعدادا قليلة في مجموعهم، ثم تضاعفت هذه الأعداد، فكانت ألوفا ألوفا.
وثانى الشعورين اللذين يجدهما المسلم من قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} أنّه على أية حال يكون عليها المسلمون- في مجموعهم- من الضعف، فإنهم أرجح كفّة من عدوّهم في مجموعه، وأن جماعتهم المقاتلة تغلب الجماعة المقاتلة لها ولو كانت مثليها في العدد.. وهذا ميزان المسلمين المقاتلين دائما، في أي حال، بل وفى أسوأ حال.. لأنهم إنما يقاتلون في جبهة الحق، ومن أجل قضية الحقّ.. وهذا من شأنه أن يقيم في كيانهم شعورا بأنهم إنما يقاتلون للّه، وفى سبيل اللّه، لا لأنفسهم، ولا لدنيا يريدونها.. فهم- والحال كذلك- جند من جند اللّه... يمدّهم اللّه بعونه، وتأييده، ونصره.
وهذا ما يشير إليه تعالى، فيما كان عليه المؤمنون والمشركون في غزوة بدر، إذ يقول سبحانه: {قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ} [13: آل عمران].
وعلى هذا، فإن قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} ليس مرادا به رفع حكم كان واقعا على المؤمنين، ملزما لهم، حيث كان الواحد منهم مطالبا بقتال وقتل عشرة من العدو، ثم أصبح مطالبا بقتال وقتل اثنين- بل إنه إلفات للمسلمين إلى ما أمدهم اللّه سبحانه وتعالى به من أنصار وأعوان، حين كثّر أعدادهم، وأنهم الآن ليسوا هم وحدهم الذين يحملون عبء الدفاع عن الدعوة الإسلامية، في وجه عدو يملأ وجه الأرض حولهم، فقد كثرت أعداد المسلمين معهم، وإن كانوا أضعف منهم إيمانا، وصبرا على مكاره الحرب، واستبسالا في لقاء العدوّ.
فالآية الأولى خبر، يكشف عن حال، والآية الثانية، خبر آخر يكشف عن حال أخرى.
وعلى هذا تظل الآيتين تحدثان عن حالين من أحوال المسلمين، حالهم حين يكون إيمانهم على هذا المستوي الذي كان عليه المسلمون الأولون السابقون من المهاجرين والأنصار.. وحالهم حين يضعف إيمانهم فتعرض لهم عوارض الضعف والوهن في لقاء عدوّهم.
وهذا من شأنه ألا يقطع الأمل في نفوس المسلمين بأن ينشدوا القوة دائما، وأن يلتمسوها في الإيمان والصبر، وأنه كلما قوى إيمانهم وصبرهم قويت شوكتهم، واشتدت على العدوّ وطأتهم، وكان حساب الواحد منهم راجحا بعشرة من العدو المقاتل لهم.
فإذا كانت جماعة من جماعات المسلمين في صقع من أصقاع الأرض، تقاتل في سبيل اللّه، وكانت في قلة ظاهرة أمام عدوّ كثيف العدد، فإنّ لها أن تنشد المدد من الإيمان باللّه، وأن تنظر إلى نفسها على ضوء قول اللّه تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} فإن هم فعلوا ذلك، وأخلصوا النية والعمل للّه، حققوا هذا الوصف الذي وصف اللّه سبحانه وتعالى به المؤمنين، الذين خلت نفوسهم من الضعف، والوهن.
وقد فعل المسلمون هذا فعلا، في سيرتهم مع الإسلام، وفى انتصارهم على أعداد تكثرهم أكثر من عشرة أضعاف.
فإن كنت في شك من هذا فاسأل التاريخ.. بكم من المسلمين فتح خالد بن الوليد مملكة فارس؟ وبكم من المسلمين فتح أبو عبيدة بن الجراح بلاد الروم؟
وكم كانت أعداد المسلمين الذين فتح بهم عمرو بن العاص مصر؟
وبكم من المسلمين اقتحم طارق بن زياد بلاد الأندلس، واستولى على زمام الأمر فيها؟
وجواب التاريخ هنا شهادة قاطعة بأن المسلم إذا استنجد بإيمانه باللّه، كان وحده كتيبة تغلب العشرات، لا العشرة من جند العدوّ.
ونسأل:
ترى لو فهم المسلمون هاتين الآيتين- الناسخة والمنسوخة- على أنهما حكمين، ملزمين لهما.. أكان هذا الذي كان منهم، فيما يحدّث به التاريخ عنهم في ميدان القتال؟ وفيما حققوه من نصر مبين على أعدائهم الذين التقوا بهم في أكثر من ميدان، وهم قلة قليلة في وجه أعداد كثيرة، إذا أحصيت كان المسلم محسوبا فيها بحساب عشرات وعشرات؟.
وفى قوله تعالى في وصف العدو المقاتل للمؤمنين: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} ما يكشف عن الفارق الذي فرق بينهم وبين المؤمنين، حتى كان المؤمن يغلب عشرة منهم، وقد يكون في هؤلاء العشرة من هو أقوى قوة، وأمتن بناء، وأشدّ ساعدا.
ذلك أن المشركين، والكافرين من أعداء المؤمنين {قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} أي لا يسكن إلى كيانهم إيمان باللّه، وباليوم الآخر، فهم حين يقاتلون إنما يقاتلون على مخاطرة بحياتهم التي يحيونها في الدنيا، ولا تخطر يبالهم خاطرة أن وراء هذه الحياة حياة أخرى أخلد وأبقى، وأطيب وأهنأ لمن آمن واتقى... ومن هنا كان حرصهم على ما في أيديهم من حياة حرص الشحيح على شربة ماء تقع ليده على ظمأ، في صحراء.. ومن هنا أيضا كان جبنهم في مواقف القتال، وانحلال عزائمهم، وزيغان أبصارهم، وتطاير قلوبهم هلعا وفزعا.
هذا، على حين أن المؤمن يقاتل وهو على {فقه} بالموقف الذي يقفه، وأنه صائر به إلى إحدى الحسنيين، إما النصر الذي يكتب به للإسلام عزّا، وينال به عند اللّه أجرا، وإما الاستشهاد الذي ينتقل به إلى دار خير من داره، وإلى عالم أكرم وأطيب من عالمه، حيث ينطلق في رحاب اللّه، ينعم بما تشتهى الأنفس وتلذ الأعين، في جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.